
تعتبر سورة الفلق من السور القرآنية العظيمة التي يُستعاذ بها من الشرور المختلفة، وتقف آيتها الرابعة: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾، محطّ اهتمام وتدبر عميق، لما تحمله من دلالات تتجاوز المعنى الحرفي الظاهر إلى أبعاد روحية ونفسية واجتماعية. فما هو سر هذه الآية؟ وكيف نفهم دلالة "النفاثات في العقد" في سياق العصر الحديث؟
المعنى الظاهري: السحر والحسد
تقليدياً، يجمع غالبية المفسرين على أن "النَّفَّاثَاتِ
فِي الْعُقَدِ" تشير إلى السواحر أو السحرة الذين يستخدمن النفث (النفخ مع شيء
من الريق) في العقد التي يعقدنها على الخيوط أو الأوتار كوسيلة لإيقاع السحر والأذى.
هذا التفسير مدعوم بالروايات المتعلقة بسحر النبي صلى الله عليه وسلم، حيث يُعتقد أن
السحر وُضع له في إحدى عشرة عقدة.
النفث في العقد: يرمز إلى عملية إحكام السحر وإطلاق شره.
فالساحر يعقد العقدة وينفث فيها، مُعتقداً أنه بهذا الفعل يربط الإرادة الشريرة بتلك
العقدة المادية، لتتحول إلى مصدر شر يصيب المسحور.
الدلالة الأعمق: القوة الخفية للشرور النفسية والاجتماعية
لا تقف دلالة الآية عند حدود السحر التقليدي، بل تتسع لتشمل
كل قوة خفية تسعى لـ**"عقد"** الأواصر وتفكيكها، وبث الفتنة والشر. يمكن
النظر إلى "النفاثات في العقد" على أنها رمز لـ:
النفوس الشريرة المفسدة: قد تشير إلى النفوس الخبيثة التي
تبث سمومها وأكاذيبها ووشاياتها في المجتمعات والعلاقات، فـ"العقد" هنا قد
تكون:
عُقد الألفة والمحبة بين الأزواج والأصدقاء والمجتمعات.
عُقد العزيمة والإرادة في نفس الإنسان، فتهبط همته وتضعف
إرادته.
التأثير السلبي للمُحبطين: في سياق معاصر، قد يمثلون الأشخاص
أو التيارات التي تنفث الإحباط واليأس والتشكيك في قيمنا وعقائدنا، محاولة "عقد"
طريقنا نحو الخير والنجاح.
الفتن النسائية: ذهب بعض المفسرين إلى أنها تعني النساء الفاتنات
اللواتي يتلاعبن بعقول الرجال ويُفسدن عزائمهم وآراءهم، استعارة من قوة تأثيرهن في
حل وربط القرارات، فيُستعاذ بالله من شر فتنتهن.
كيف تحمينا الآية؟ سر الاستعاذة
الآية الكريمة ليست مجرد وصف لآلية السحر، بل هي توجيه رباني
للاستعاذة والتحصين. عند طلب العون من الله تعالى بقول: ﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ
فِي الْعُقَدِ﴾، فإننا نؤكد على:
اليقين بقدرة الله: إدراك أن مصدر الحماية والتحصين الأول
والأخير هو الله عز وجل، وأنّ كيد الساحر ضعيف أمام إرادته.
الحذر من مسببات الفساد: الدعوة إلى التنبه للشرور الخفية
والمكائد المبطنة، سواء كانت سحراً حقيقياً أو فتناً اجتماعية مفسدة.
في النهاية، تظل الآية الكريمة تذكيراً دائماً للمؤمن بضرورة
التمسك بالذكر والقرآن، فـالمعوذتان (الفلق والناس) هما درع المسلم الحصين في مواجهة
كل شرّ خفي وظاهر.
0تعليقات